تفسير سورة الفلق ( استعيذ بالله من شر ما خلق لتأخذ خير ما خلق )

قُقل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5}- ‏ الفلق الأستعاذة تقتضي مستعيذاً ومستعاذاً به وتقتضي مستعاذاً منه فبمن تستعيذ ؟ تستعيذ برب الفلق فماهوالفلق؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1}- الفلق إما أن يكون الصبح وهو النور او الهداية وما يكون الناس به على بصيرة وإما أن يكون الفلق هو ما ينفلق عنه الوجود والحياة في قوله تعالى:إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{95} -الأنعام وسواء كان الفلق بمعناه الأول أو بمعناه الثاني والذي أوجد الوجود وخلق الخلق لتسيرفي هذه الحياة بهدايته فإنه هو الرب الذي يجب أن تستعيذ به و في قوله تعالى مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} – الفلق أنت تستعيذ من شر ما خلق ليبقى لك خير ما خلق ، فالموجود من خلق الله ليس شر محض ولا خير محض ولكن هناك زوايا خير وزوايا شر فحين ننظر إلى تذليل الله سبحانه وتعالى للحيوانات المستأنسة لخدمة الانسان مثل الجمل والذي يمكن أن يقوده طفل صغير وهو حيوان كبير او الحيوانات غير المستأنسة كالثعبان مثلاً والذي يهرب الناس منه على صغير حجمه والتي لم تذلل حيث أبقى الله عز وجل بعض عناصر الوجود من حيوانات غير مذللة ليفهم الانسان بأن الحيوانات المستأنسة لم تذلل له بقوته ولا بقدرته ولو لم يذللها الله ما ذللت لك،وخلقها الحق سبحانه وتعالى لحكمة بينها في قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {71} وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ {71} - يس فالملكية لها ناشئة عن التذليل للإنسان من الخالق بقدرته عز وجل وليس من الخلق والثعبان على الرغم مما هو عليه من شر لا يتعدى إلى غيره فهو يستخلص السم منه ويصنع به الدواء لشفاء بعض الأمراض حتى يعلم الانسان أن هذا الكون المسخرمن الله لا يستغني عن الخالق فهناك مخاوف مستورة تذكر الخلق بالخالق .وقال تعالى وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} – الفلق فما هو الغاسق ؟ الغاسق هو الليل ،وإذا وقب أي دخل بظلمته في كل شيء وسترعن الناس مضان الشر الوحوش المفترسة ،الحشرات السامة ،الهوام ،عدو متربص به والتي لا يكون عند الأنسان القوة اللازمة لدفعهم بها والأصل في الغاسق هو الدافق والأصل في الوقب هي النقرة في الجبل يجتمع فيه الماء ثم يسيل و تنجم تلك الحفرة عن المطر الغزير، فالسحاب والغيوم الكثيفة تفاجئ ضوء النهار تحجب الشمس فأخذ الغاسق وهو الليل المظلم من الماء أو المطر الدافق الذي ينقر في الجبل .وقال تعالى وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} - الفلق النفاثات تأتي للتأنيث فقيل أنهن الساحرات وقال بعض العلماء أن هناك سحرة من الذكور لذا فإن المقصود هو النفوس الساحرة وقال تعالى وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5}- ‏ الفلق وفي هذه الآية صورتين وقف العقلانيون عندها فقالوا كيف يأتي الله بشيء يحسد وشيء آخر يسحر لأن هذا الأمر لم يخضع لقضية عقلية عندهم حيث أنه في بداية عصر النهضة فُتنت العقول بالعلوم وقد كان لهذا العصر فوائده الجمة على التقدم الحضاري ولكن هؤلاء العقلانيون اصبحوا يحاولون التقريب بين العقائد في بعض القضايا الإسلامية الغيبية والتي لا تتفق مع منهجهم العقلي فيما يعرف بالمدرسة العقلية ومع منطق العلم التجريبي والواقعي ومنطق الأشياء فأصبح هؤلاء يؤولون فيها وكأنهم أرادوا أن تكون قضايا الدين جميعها تدخل تحت نطاق التجربة ولو كل شيء في الدين يدخل تحت هذا النطاق لما كان هناك حاجة للإيمان بإله أو رسول وطالما أنت تؤمن بالله عز وجل فيجب أن لا يكون العقل حجة على ما خلق الله سبحانه وتعالى لأنه خلق أشياء لا تعلمها فكثير من الأشياء التي لم تدخل تحت نطاق الحس والتجربة قديماً مثل المكروبات وكانت غيباً مادياً وأصبحت الآن أمراً معلوماً للجميع ،فلماذا لا يكون العلم المادي الذي كان غيباً قديماً ثم صارت مشهد وسيلة لمعرفة أن العقل ليس حجة على الحكم على وجود الأشياء حين لا يدركها بالعقل ويجب أن يكون الأنسان منطقياً فإن حدث أمر ما في زمن سابق لم يعرف وكان غيباً لم يكن له أن يصدق ثم صار مشهد فلماذا لا يكون ذلك حجة على أن العقل ليس مقياس على فهم الأشياء وأن العقل لا يفهم منها إلا على قدره ويكون ذلك برهان بأن العقل ليس حكم على فهم الأشياء بل يقوم بتوثيقها فبحث الأنسان قد يهديه إلى الأيمان بالله وبكل ما قاله وصدرعنه،المحبوسات عن البشر نوعين النوع الأول مستور في علم الله والنوع الثاني في غيب الله فالشيء الذي أكتشفه العقل عن طريق مقدمات موجودة في الكون كان غيباً وإن لم يكن غيباً مطلقاً للمقدمات التي أوصلت إليه عن طريق سلسلة وحلقات رتبها العقل بعد أن كانت شيء خفي ولقد تناول الله عز وجل في آية الكرسي هذه القضية الكونية في قوله تعالى:اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ{255} -البقرة نسب الإحاطة للبشر ولكن بإذن الله فكل غيب له مقدمات في الكون له أجل أن يظهرفقد يتفق أجله مع استعمالك المقدمات أو أن يكون أجل الله قد حان لهذا الغيب أن يظهر صدفة مثل كثير من المخترعات التي اكتشفت صدفه وأذن الله لها أن تظهر ،أما الغيب المطلق هو الذي لم يضع له الله مقدمات تدل عليه ولم يجعل للبشر فاعلية او ارتباط فلا يطلع على غيبة احد ومن قال أنه لا يوجد سحر فإنه يصادم بقوله هذا الأحاديث النبوية ويصادم النص القرآني ولا يصح اجتهاد مع نص ولكن يتم مقاربة الأشياء فقط بالعلم البرزخي ويستدل منه على وجود السحر فقد تم مقاربة المسائل في قوله تعالى:وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{102} - البقرة. السحر ليس بشري ولكنه علم علوياً أُنزل من الحق سبحانه وتعالى فهناك صفقة في تعلم السحر بين الأنسي والجني فالجن محكومين بقانون أدق وأقدر وأشف حيث أنه مخلوق من نار وقوانين وجوده تستمد مقوماته منها أما الأنسان مخلوق من الطين ويوجد في عنصر وجوده كثافاته كثافة الطين فاللجن قدرات تفوق قدرات الأنس ولكن المسألة ليست عنصراُ يتحكم بعنصر أخر أدني منه فالله يستطيع أن يهب العنصر الأدنى خواص أعلى من الخلق الأعلى ويبرهن عن ذلك قصة عرش الملكة بلقيس وتنكير سيدنا سليمان لعرشها قبل مجيئها إليه فالأشياء لا تأخذ قوتها من عناصرها فالله قد يمنح الميزة للأدنى ويستطيع ذلك مثل تسخير الإنس للجن وسجود الملائكة لآدم عليه السلام بعد أن أمرهم بذلك ’هناك ما يعرف في الكون بتكافؤ الفرص والذي يحفظ التوازن بأن يكون الناس جميعهم متكافئين في الفرص والتوازن ينشأ في المجتمع من تكافئ العناصر وعندما يختل هذا الأمر يحدث الطغيان فالانسان بقانونه يعيش مع الناس وحين يمتلك قوة أكبر من قوة بني جنسه يختل مبدأ تكافئ الفرص وتسخير الجن عن طريق التمائم وبعض التعويذات ليس في صالح الانسان لأن الانسان قد يحكم حكماً ساعة الأخذ لا يستطيع إنفاذه وقت الإعطاء فقال تعالى هي فتنه لأن امتلاكك قوة أكبر من بني جنسك تعطيك فرصة أوسع لا تجعلك تتعامل مع الوجود بالفرص المتكافئة فينزلق الانسان إلى الشر بامتلاكه تلك القوى والتي على الرغم من ذلك لا تغيير مجرى ما قسم الله لمن أمتلكها ،لذا فإن المشتغلين في هذا اللون هم فقراء وبائسين أبناءهم مصابين والرسول صلى الله عليه وسلم ظهر له جني فأحب أن يربطه في سارية المسجد حتى يتفرج عليه صبيان المدينة، فالجن حين يتصور بغير صورته تحكمه الصورة فلو تمثل بصورة أنسان أو حيوان ورميته بالرصاص يموت وهنا ضمان من الله للأنس على الشياطين لكف أذاهم عنهم وإلا لما تورعوا عن إفزاعهم طوال الوقت ولذا سمي الشيطان الوسواس الخناس والذي يتنبه له يذهب عنه والذي يغفل عنه يظهر له ،فالسحر لا يؤثر في الحقائق وقصة سيدنا موسي عليه السلام مع سحرة فرعون تشير إلى ذلك فالسحر تخيل للرائي وحقيقة الأمر تضل واحدة قال تعالى:اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ {255} - البقرة والسحر هو تخيل فقط بينما قام الله بقلب الحقائق قلب حقيقة الشيء مع موسي فالعصا تحولت إلى ثعبان بينما السحرة إثناء السحر يرون الأشياء على حقيقتها فعلموا أن ما جاء به موسي من معجزة مصدره قوة أعلى من الله عز وجل وليس سحراً فأمنوا بالله والرسول صلى الله عليه وسلم سحره لبيب أبن سعد وذلك وارد في البخاري وثابت عنه صلي الله عليه وسلم ثم يأتي العقلانيون ويقولون أن هذا الأمر يشكك في حقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والشك قد يصح في ذلك لو أن السحر يؤدي إلى تغيير طبيعة العقل ولكنه لا يؤدي إلى ذلك بل في التخيل والتغيير في مادية الرسول صلي الله عليه وسلم يدل أنه حدث له سحر وكيد الكفار نوعين النوع الأول علناً وذلك شأن القوي والآخر هو الاستتار والتآمر وذلك شأن الضعيف.وفي مسألة الحسد هو تمني زوال نعمة المحسود لذا وقد يقوم إنسان ضعيف الأيمان بالحقد على إنسان آخر فيحسده لذا طلب منا الله عز وجل حين نرى نعمة على إنسان آخر أو على نفوسنا أن نقول بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فإذا قلت هذه العبارة لا يضار قائلها لا بحاسد أو محسود حيث أن الحاسد لابد له من قصد الحسد لأنه كاره للنعمة التي بيد الغير وإذا عرف الأنسان نفسه أنه يمتلك القدرة على الحسد وكان ورعاً تقياً فأنه يستخدم هذا السلاح ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فيزول عنه التمني بزوال النعمة من الغير وحدوث الضرر له بالطاقة أو القوة التي يمتلكها والإرادة بقصد الحسد للشخص المحسود وذلك فتنه علمنا الله عز وجل أن نستعيذ للشر والضرر الناجم عنها سواء علمناها أو لم نعلمها ،ومن ينكر هذا الأمر يقول أن قوله تعالى وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5}- ‏ الفلق إنما هو احتيال وتآمر من الشخص ليزيل عنك النعمة و في قوله تعالى وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} - الفلق النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ أن العقد ليس السحر بل هي عقدة النكاح فيأتي الشخص ليبث سمومه بالنميمة والوشاية والكيد ...الخ إلا أنه قد ثبت غير ذلك وليس هناك أحد منا إلا وفي محيطه أشياء من هذه ومادام الله عز وجل علمنا أن نستعيذ به من تلك الأشياء فلابد أن يكون ذلك شيء دقيق وخفي وشيء لطيف لا يقع تحت دائرة احتياط البشر فلا يعيذك منه إلا الله عز وجل ولا ينجيك إلا هو ولو أنها من الأمور التي هي من مستويات القوانين المادية لكان من الممكن أن يكون لدى الانسان ما يدفعه به أما أن يعلمنا الله أنه لا يمكن دفع هذه الأشياء التي تحدث أثراً ضاراً في النفس إلا بالله فذلك يدل على أنها تؤثر على البشر بالضرر و لذلك فهي كالظلام الذي يخفي الأشياء وبالوسوسة والتي هي احتيال وتلصص وتلطف على النفس البشرية حتى تقبل على الشر

زادك الله ايمانا بما عرفتنا اياه من هذا التفسير

» تفسير سورة التحريم
» تفسير سورة محمد
» تفسير سورة العاديات