تفسير سورة البينة

سورة البينة سورة مدنية عند جمهور العلماء إلا أن البعض قال أنها سورة مكية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب قال : وسماني ؟ أي هل نص علي باسمي قال له : " نعم " بكى إما فرحا وسرورا بذلك ، وإما خشوعا وخوفا من التقصير في شكر تلك النعمة قال أبو عبيد : المراد بالعرض على أبي ليتعلم أبي منه القراءة ويتثبت فيها ، وليكون عرض القرآن سنة ، وللتنبيه على فضيلة أبي بن كعب وتقدمه في حفظ القرآن ، وليس المراد أن يستذكر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا بذلك العرض . ويؤخذ من هذا الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونه . وقال القرطبي : خص هذه السورة بالذكر لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ {1} - البينة المعني الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هم اليهود والمعني بالمشركين هم عبدة الأوثان والأصنام وعنى الله سبحانه وتعالى في قوله مُنفَكِّينَ أي منتهين عن الكفر حتى أتتهم البينة وهى بعثة النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فالرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم ضلالهم وجهلهم فآمن به بعض المشركين وبعض أهل الكتاب وفي الآية بين نعمة الله عز وجل على من أمن من الفريقين إذ انقذهم من الكفر ببعثته صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم هو المعني في قوله رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً {2} – البينةوهو الذي يتلوا صُحُفاً مُّطَهَّرَةً وهىالقرآن يحفظه عن ظهر غيب لا من كتاب وهو مطهر وتم نتزيهه عن الشك والتزوير فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ {3} وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4}– البينة وهذه الصحف فيها مكتوبات قيمة مستقيمة لا أعوجاج فيها تبين الحق من الباطل بما تحتوية من آيات والمراد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ هم اليهود والنصارى ممن لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانوا مجتمعين على نبوته صلى الله عليه وسلم قبل بعثته يترقبونها فلما بعثه الله منهم من جحدها وكذب بها ومنهم من آمن به صلى الله عليه وسلمهذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم ، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر ، بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب واليهود والنصارى ما أمروا في كتبهم التوراة والأنجيل إلا أن يوحدوا الله عز وجل فلا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له وهذا المقصود في قوله وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ {5}- البينة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدين أي العبادة مخلصين له العبادة من الشرك لا يعبدون سواه على دين نبي الله سيدنا إبراهيم عليه السلام ودين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين والحنف هو الميل عن الضلال إلى الأستقامة ويقال تحنف فلان أي تحرى طريق الأستقامة العرب و لم تتتمسك العرب في الجاهلية من دين سيدنا إبراهيم عليه السلام إلا بالختان والحج لذا قيل إن من حج أو اختتن تحنف وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ الصلاة وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ المفروضة في اوقاتها ويؤدوا الزكاة عند وجوبها وذلك الذي أمروا به هو دين القيمة وقيل أن دين القيمة هو دين الملة المستقيمة أو دين الأمة القيمة بالحق والله عز وجل حكم على الفريقين من أهل الكتاب أو المشركين بالخلود في نار جهنم إلى غير نهاية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {6} – البينة كما بين الله عز وجل ذلك في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} – الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ ، فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ , أَيْقِنُوا بِالْخُلُودِ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ , أَيْقِنُوا بِالْخُلُودِ . قَالَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ سُرُورًا " والذي عليه أهل السنة والجماعة أن النار لا تفنى ولا تبيد ، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين ، أما الكفرة والملحدون فهم فيها خالدون . قال الإمام ابن حزم في كتابه " مراتب الإجماع " أن النار حق ، وأنها دار عذاب لا تفنى ، ولا يفنى أهلها بلا نهاية فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان والله بدأ بذكر أهل الكتاب لأن جنايتهم أعظم فهم بدأوا بالطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم أنكروه مع العلم به كانت العرب تمر بيهود فيلقون منهم أذى ، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة ويسألون الله أن يبعثه ، فيقاتلون معه العرب . فلما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كفروا به حسدا ، وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل ؟ ويكابرقال تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ {89} - البقرة مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ لو كان مختلف عما معهم كان يمكن أن يحصل الخلاف ولكن الأصول واحدة والعجيب في بني إسرائيل أنه قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل مجيئه إلىالمدينة المنورة كانوا مؤمنين به إيماناً في غير موضعه إيمان الغرض منه سلب كبرياء الناس وليس لذات الأيمان فقد كان في المدينة المنورة الأوس والخزرج وهم يعبدون الأصنام واليهود من أهل الكتاب وهم أقرب لله مع ما هم عليه من انحرافات دينية بالنسبة للمشركين وعندما تحدث خصومة ويستفحل الأمر كان اليهود يقولون سوف يأتي نبي نتبعه ونقتلكم قتل عاد وأرم فلما جاءهم ما عرفوا لم يؤمنوا وليتهم لم يقولوا ذلك من قبل فهم ساندوا بأنفسهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المقولة لأن ذلك جعل الأوس والخزرج تترقب ظهور ذلك النبي الذي توعدتهم به بني إسرائيل فكانوا يرهفون أسماعهم لأي شيء يحدث فلما سمعوا أن رجل في مكة يدعي النبوة قالوا لعلة يكون النبي الذي تتوعدنا به بني إسرائيل هيا نسبق إليه قبل أن يسبقونا فكان رسول الله يذهب إلى الطائف وكل مكان يلتقي بالقبائل في مواقع حجهم فيعرض عليهم رسالته فيصدون عنه ويهددوه ويضطهدوه ويؤذوه وحينما يريد الله أن يتم نوره تأتي النجدة من يثرب وعلى لسان اليهود وتقدم جماعة من يثرب إلى مكة ويؤمنوا به أولاً و ينشروا الدعوة ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم على دار إيمان وكان اليهود سبباً في إتمام هذا الأمر فكأن الله يقول لهم أنه إذا أراد شيئاً سخرهم لتأييد ما يكرهون إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {6} – البينة وقوله أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر الخليقة وظاهره العموموقيل المراد شَرُّ الْبَرِيَّةِ من الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يستبعد أن يكون من الأمم السابقة من هو شر من هؤلاء مثل فرعون وعاقر ناقة سيدنا صالح عليه السلام من قوم ثمود إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ {7}‏ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ {8}‏ - البينة و خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي خير الخليقة فهؤلاء جزائهم عند ربهم جنات عدن يقيمون فيها فقد رضى الله عن اعمالهم وأثابهم عليها وهم رضوا بثواب الله تعالى وهذا الخير الكبير الذي وصفه الله بهذا الأوصاف الكريمة ووعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات إنما هو لمن خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته بالقيام بفرائض الله واجتناب معاصيه والله سبحانه وتعالى أعلم

» تفسير سورة العاديات
» تفسير سورة محمد
» تفسير سورة الفلق ( استعيذ بالله من شر ما خلق لتأخذ خير ما خلق )